كتاب “هكذا تكلم كوكلر” الصادر حديثا عن دار النشر المغربية “منشورات النورس”، هو عبارة عن حوارات مع الفيلسوف النمساوي الذائع الصيت هانس كوكلر.. تكمن أهميته في المقام الأول في عمقه التحليلي وشمولية المواضيع الفلسفية التي تطرق لها كوكلر، المتخصص في الفينومينولوجيا والفلسفة القانونية والسياسية والعارف بدهاليز السياسة العالمية، نظرا للمهام الرسمية المختلفة التي أنيطت به للتوسط لحل نزاعات بين الدول كتبادل أسرى الحرب بين العراق وإيران وحضور محاكمات لوكيربي كعضو ملاحظ محايد والتوسط في المشكل الكردي بالعراق إلخ.
كوكلر من الفلاسفة الغربيين القلائل ممن تبنوا في مشاريعهم الفكرية والفلسفية عن قناعة مناصرة المظلومين في هذا العالم الشاسع، المحكوم بقبضة من حديد من طرف الإمبريالية العالمية. فهو من طينة شومسكي مثلا، لا يلوك كلماته عندما يتعلق الأمر بممارسة الكيل بمكيالين للغرب، وتفضيل دولة على أخرى، طبقا لمصالحه الاقتصادية والجيوسياسية. ومرد هذا إلى أن كوكلر يؤمن بالعمق الفسلفي لأحد أهم مبادئ التنوير الغربي، ألا وهو مبدأ العدالة الدولية بين الدول، وعدم التدخل في شؤون بلدان أخرى دون سند قانوني دولي بهدف إعادة إحلال مبدأ العدالة قانونيا وبتفويض من المؤسسات العالمية المختصة كمنظمة الأمم المتحدة. ينتقد كوكلر بشدة الممارسة الحالية لهذه المنظمة، ويشير بالأصابع إلى أنها ليست محايدة، لأن قراراتها مرتبطة أساسا بإرادة أقوياء هذا العالم الذين أسسوها بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف المحافظة على السلم والعدالة العالميين. ويسجل بمرارة أن هذا الهدف لم يتحقق ولن يتحقق بمساعدة هذه المنظمة، المُتحكَّم فيها من طرف قوى إمبيريالية لا تراعي إلا مصالحها. ومن تم نداؤه المستمر لإصلاح هذه المنظمة لكي ترجع بالفعل إلى مبدأ إحلال السلام بين الدول بالرجوع إلى العدالة والقانون الدوليين.
يكمن أساس الفلسفة السياسية التي طورها كوكلر باستمرار وعناء فكري كبير في أسس فلسفة إنسانية محضة، أي في إرث فلسفي غربي لم يتطور بما فيه الكفاية منذ الأنوار، بل حوصر في الكثير من الأحيان، نظرا لمواقفه النقدية اتجاه الحركات الاستعمارية والاستحواذ على بلدان أخرى وعلى خيراتها واستعباد سكانها باستغلال أهداف “مزورة” (الرغبة في إلحاق هذه البلدان بركب التقدم الاقتصادي والسياسي إلخ).
يحاول كوكلر في فلسفته إعادة إحياء هذا الصوت الخافت وإعطائه نفسا في الوقت الحاضر ليُسمع ويُؤخذ بجد. إنه نوع من الدعوة إلى إعادة إحياء ضمير الإنسانية، وبالخصوص القوى المهيمنة فيها، للعودة وتطبيق ما يخدم الإنسانية جمعاء، وليس ما يعرضها للزوال على المدى المتوسط والطويل.
إن الفلسفة الإنسانية التي يمشي كوكلر على طريقها، وكما يؤكد في الكثير من مؤلفاته ودراساته الفلسفية، ليست إقليمية (أي غربية محضة)، بل كونية، تساهم في تطويرها باستمرار كل ثقافات العالم، من هنا إيمانه أيضا بأن الحوار الثقافي والحضاري والعقائدي هو المفتاح السحري للتعايش في سلام في هذا العالم المعقد، وهو الضمانة الوحيدة لتطبيق مبدأ العدالة بين الشعوب. ولا يتورع في هذا الإطار في نقد الغطرسة الغربية واعتبار نفسها “أم الحضارات والثقافات”، أي نقده للمركزية الغربية، التي لم تقدها إلا للرقص حول نفسها وإيذاء ما عداها. للإشارة فإن تفكير كوكلر يقلب معادلة مألوفة لمنتقدي الممارسة الغربية في هذا الإطار: الغرب لا يحاول فرض ثقافته وحضارته على الشعوب الأخرى، بل يقصيها من الإقتراب من هذه الثقافة بميكانيزمات لا حصر لها. لا يريد الغرب مثلا أن تمتلك دول أخرى إمكانيات تيكنولوجية، لأنها ستصبح منافسة له، ولايريد أن تطبق أي نوع من الديمقراطية، لأنها ستعي الحيف والإستغلال الذي يُمارس في حقها. ما يُتقنه الغرب في هذا الإطار هو أنه يبيع الشعارات، تماما كما عودنا على ذلك منذ “الاكتشافات الجغرافية الكبرى، لا يسلم أية سلعة، بل يكتفي بالإشعار بأن هذه السلعة متوفرة.
يقول الروائي والإعلامي المغربي ياسين عدنان في تقديمة لكتاب “هكذا تكلم كوكلر”: “حينما دُعيتُ للمشاركة في أول أيّام ثقافية مغربية بالنمسا ربيع 2008، ورد اسمُ كوكلر أمامي أوّل مرة، فأثار اهتمامي فكرُ الرجل ورؤيتُه المتضامنة مع العرب والمسلمين ليس لأسباب إيديولوجية، وإنما لاعتبارات فكرية قانونية إنسانية. هكذا سعيتُ إلى الاقتراب من مداره الفكري، فأجريتُ معه حوارًا خاصّا لمجلة “دبي الثقافية”. بعدها سعدتُ بتقديم الفيلسوف النمساوي في لقاء مفتوح مع جمهور المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء عام 2009″ ويضيف: “في هذا الكتاب، يتيح لنا حميد لشهب عبر حوار متشعِّب عميق أن نتعرّف على المسار الشخصي والأكاديمي لكولكر، أن ندنو من مداره الفكري والفلسفي، وأن نطلَّ على تجربته الأممية الميدانية. وكلها مجالات تفيد القارئ العربي: سواء كان باحثا شابا شغوفا بالفلسفة راغبًا في خلق تماسٍّ حيٍّ خلّاق للفكر الفلسفي وروحه النقدية مع الواقع وقضايا المجتمع، أو قارئًا متطلِّعًا لمواطَنة كونية تُؤَمِّن العدالة للجميع، … كما أنّ مَن يستوطِنُهُ الشعور بظلمٍ تاريخيٍّ تعرّض له العرب والمسلمون، في الزمن الاستعماري وما تَلاه، طال كل قضاياهم العادلة بدءًا بقضية فلسطين، سيجد فيه هو الآخر دلائل ملموسة على الطريقة التي تمّت بها شرعنة هذا الظلم وتثبيتُه. كل هذا وذاك سيتحقّق للقارئ في حوار شيِّق، لم يُجرِه مع كوكلر صحافي محترف أو إعلامي محنّك، وإنّما مفكّر مغربي مُغترِب يُعَدُّ صديقًا كبيرًا لتجربة الفيلسوف النمساوي: كان طالبًا له أيام الشباب، ترجم أهمّ أعماله إلى العربية، وهو إلى اليوم متابعٌ دقيقٌ لتحوّلات مساره في الفكر والفلسفة والحياة. لذلك، من حقّه علينا أن نقرأه ونقرأ حواره لنعرف جميعًا كيف سيتكلَّمُ كوكلر”.