*ماجد الحسن:
إنّ الشاعرة تراهن على تحقيق ذاتها في نص إشكالي ما زال مثاراً للجدل، فقصيدة النثر النسوية تؤسس لتكريس الطاقة الذاتية الكامنة المحكومة بالسياق السائد موضوعياً وثقافياً واجتماعياً وتاريخياً حيث (الأنوثة) تلاحق إشكالية الاشتغال النصي، وانطلاقاً من ذلك بات رهان قصيدة النثر النسوية يدور في حدود المفاجآت والمتناقضات التي تكون خلاصتها مكابدات شعرية، تسترد من خلالها خصوصية صوتها، ولذلك جاءت قصيدة النثر النسوية بوصفها حضوراً وسؤالاً يخترق السائد ليفكك مسلمات الوعي التقليدي، ومن هنا لا بد لهذه القصيدة أن تقدم نسقها المغاير بعيداً عن الانضواء أو الاندماج في كتابة الآخر/الرجل. وتأسيساً على ما سبق يحيلنا عنوان (شغب أنثوي) (1) الذي يتماشى ومقاصد الشاعرة في تجربتها الوجودية بوصفها تحولاً في النسق الشعري لرؤيتها لذاتها، لذلك تحاول الشاعرة (رسمية محبيس) أن تتجاوز الواقع بالالتجاء إلى الذات لتبتكر وعياً جديداً تتخلص فيه من معايير التذوق الشعري المألوفة التي تستبعد سلطة الهيمنة الذكورية، ولذلك لجأت إلى تأنيث العتبة الذي يستلزم المغايرة، فمن خلال العنوان نرى أن الوظيفة الدلالية الضمنية المصاحبة ، كانت حاضرة لما نلمسه من توافق بين العنوان ومضامين النصوص الدالة على عالم الأنوثة كما ورد في نص(عسل مخزون) .التاء مربوطة بسرير شهرياروالنون متهمة بإباحة دم ألف نبيلم يمنحنا أحد فرصة النظر الى أصابع الشيطانوهو يلتهم تفاحة الشهوات غير مكترثبدمائنا التي تسيل تحت سريره الملطخ بالقبل جاء عنوان (عسل مخزون) ليركز في جل أبعاده الرؤيوية على تعرية الأنساق الذكورية من خلال التقابل الدلالي الذي ركزت عليه الشاعرة فــ(التاء) التي تختص بها الأنثى، وهي مربوطة بسرير الحكايات/ شهريار، و(النون) الممتحنة بإخراج (الرجل) من عالمه الفردوسي، وبين الحرفين (التاء ــ النون)، هناك رغبة من الشاعرة في تحديد هوية الذات في إرساء معالم لغوية مغايرة أسلوباً ودلالة عن عالم (الرجل)، هذه المغايرة بدءاً من العنوان تجعل من المتلقي متسائلاً : ما الذي سيأتي بعد هذا (العسل المخزون) ؟ أيّ مغزى تريد الشاعرة إيصاله بهذا العنوان؟ لذلك فإن الوظيفة الدلالية المتمركزة في محنة (المرأة) وهو بمواجهة (الشيطان/الرجل) وهو يلتهمها غير مكترث بالدماء التي تسيل، هذه المواجهة شكلّت حضورها الفاعل في هذا العنوان، من خلال استثمار فاعل للخطيئة الأولى التي تمركزت دلالتها في (التفاحة) لتلحقها بــ(السرير). إنّ الشاعرة تحاول تعرية زيف العلاقات مع الآخر/الرجل، وفضح المرجعيات الفكرية والكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة القامعة والكامنة وراء المعلن، على وفق مقاصد خاصة بها والمتمركزة في عتبة العنوان، ومن هنا برزت الإشكالية الخاصة بالنصوص من خلال مجموعة من الأسئلة فرضها الهاجس الأنثوي مما استثمرت الشاعرة خصوصية خطابها الأنثوي في بناء النص الشعري، من خلال تواتر الرموز والدلالات التي تتخفى خلف مقاصد (العنونة)، وهذا ما يمكن بيانه من عنوان نصها (لم أك ممن):لم أك ممن قطعن ايديهن بحضرة يوسفولهذا ألقي بي في السجنوسأمكث فيه زمناإذ ما عاد الحاكم يحلم نحاول أن نقف من خلال عتبة العنوان عند إشكالية مجتمع يقبل المرأة ويرفضها في الوقت نفسه، فالعنوان الذي اقترحته الشاعرة والذي انطلق من تساؤل (لم أك ممن) يخضع لإجابات مفتوحة على احتمالات دلالية تمحورت على قصة تاريخية، لذا صار العنوان بؤرة تستجمع من خلالها دلالات النص، وتكثيف المعنى، فالشاعرة لا تريد أن تكون كمثل النسوة التي قطعن أصابعهن، لذلك جاء العنوان الآنف بوصفه عنصراً فاعلاً ينطوي على دلالات النص ومقاصده، وهي بمجملها دلالات توحي بالرفض لسلطة الرجل، التي جاءت نتيجة التعالق الدلالي بين معطيات النص وقصة (يوسف)، التي غيرت الشاعرة من وقائعها بأن هي من ألقيت في (السجن)، لا (الرجل) وأي سجن هذا؟ هذا التساؤل يضعنا إزاء معاناة تجسد دونية (المرأة) وهي سجينة الأنساق الذكورية، لذلك بات التساؤل الذي شكّل المتن الشعري هو سؤال الخصوصية والهوية في بعديها الذاتي والجماعي، مما تعددت صورها وتجلياتها، وهذا ما يمكن بيانه من (استعارة):يشتمنني بذكورة زائفةويشتمونني بأنوثة زائفةوما بين الاستعارتينأحسّ بنخلة الروحتساقط رطباً جنياًيا لهذا البستان الوارف في الروحكلما طالته فؤوس الحطابينتساقط ثمراً جنياً تتجه الثقافة في تصويرها للمرأة على تعميم المثال الواحد، فالمرأة ليست ذاتا مستقلة تعبر عن نفسها، وتمثل فرديتها، وإنما هي نموذج ومثال على جنسها، على عكس الرجل الذي تنظر إليه الثقافة بوصفه ذاتاً مستقلة، وانطلاقاً من التصور السابق تقع الشاعرة رسمية محيبس رهينة (ثقافتين) أطلقت عليهما (استعارتين)، ثقافة من المرأة ذاتها التي تحكم على الشاعرة بأنها (رجل/ ذكورة زائفة)، ولقد جاء هذا الحكم انطلاقاً من تصور مفاده أن الاشتغال الشعري، اشتغال ذكوري بامتياز، وثقافة أخرى يتبناها الرجل باتهام المرأة بأنوثة زائفة ، وبين (الثقافتين/الاستعارتين)، يكشف عنوان النص عن طبيعة الخطاب النسوي الممتحن بــ(فؤوس الحطابين)، وهو استلاب ثقافي جاء إثر تراكم تاريخي وسم المرأة بعدم تمكنها من أدوات اللغة والإفصاح عن عوالمها. ترى (كلير اتشرللي) أن على المرأة أن ترتبط بكل ما يحدث في العالم، ولا تكتفي بالنظر فقط داخل أعماقها، وإنما أن تخرج الروح المتمردة بكلِّ معاناتها التي يعايشها البشر في أنحاء كل العالم، ومن الأسئلة التي شكلّت دلالة العنوان هو سؤال الهوية الذي يستحضر سؤال الإختلاف، ولقد جاءت هذه الأسئلة بسبب حضور النسق الثقافي (الذكوري) وتسليط محظوراته على المرأة، جعلها هذا الحضور تمارس على نتاجها رقيباً داخلياً يقترب أو يبتعد عن تأثير الرقيب الخارجي، وهذا ما يمكن تلمسه من نص الشاعرة رسمية محبيس الموسوم بــ (أنت):أنت تخطط لسفك دميوأنا أخطط للاستيلاء على سلطة الحبأنت بارع في إلصاق التهم بيوانا بارعة في خياطة ملابس تتسع لكل العراةقاموسك يحفل بالشتائم والاتهاماتوقاموسي يضج بالثورات والبراكين وعناوين القمح التساؤل هنا يلّح علينا من خلال عنوان النص (أنتَ)، فالشاعرة هنا اعتمدت على قدرتها في المقارنة بين (أنتَ / هو) و(هي)، وهذه المقارنة شحنت العنوان بدفق من سيرة الشاعرة وبخاصة عندما يسود ضمير المتكلم أو عندما تلجأ الشاعرة إلى ضمير المخاطب والمخاطبة، ومن هنا تقوم الشاعرة بتسليط سيرتها الذاتية التي تأتي أهميتها من كونها تشكّلت في ظروف قهرية، أي أنها تشكّلت في حدود التهميش، لذلك سعت الشاعرة أن تبرز ذاتها، وتقدم تجربتها على أنها تجربة تختص بها النساء التي يشتركن معها في معاناة الهيمنة والتهميش، ومن هنا أصبح العنوان أولى العتبات المفضية إلى عالم الحقيقية النصية بفضل طاقته الدلالية، وعلاقته الجدلية مع النص، لذلك كان العنوان أولى العتبات التي يجب تخطيها لبلوغ المتن النصي ، والتمكن من جوهره. بدءاً المتخيل هو وسيلة الصور والأفكار، في ذهن الشاعرة لتحوله إلى صور تحاكي الواقع، حيث تتقارب أو تتقاطع معه، والمتخيل وعلاقته بالشعر تثير إشكالية بما تحمل من تساؤلات ومن الضروري أن نشير إلى أن المتخيل الشعري بآليات مختلفة تتحكم فيها الأبعاد السوسيو ــ ثقافية، لذلك برزت الأنساق في نصوص الشاعرة ، التي تُظهِر في تضادها حالاً من الجدلية والصراع الوجودي بين طرفين لا أهمية لأحدهما بمعزل عن الآخر، نشآ من جدلية الأنا المضمرة، والآخر البارز، في بيئة فرضت معطياتها نمطين من الحياة هما: الشعور بالوجود، والشعور بالعدم، وما يندرج تحتهما من ثنائيات نسقية، كما جاء في نصها الموسوم الذي اتخذته الشاعرة عنواناً لمجوعتها وهو (شغب أنثوي):ألا تكفْ هذه الأنثى عن ملاحقتيتمسك عصا الكتابةلتوقظ جمر الشهواتتكمن خلف أصابعيمصبوغة بفحم الانوثةعاجزة عن انجاب قصيدة واحدة إلا من سفاح إنطلاقاً من المقطع الشعري في أعلاه تضعنا الشاعرة في قلب تساؤل مهم وهو : ـ هل المرأة تعيش بغيرها لا بذاتها؟، هذا التساؤل يبدأ من إعلان الشاعرة على أنها هذه الأنثى لا تكف عن ملاحقتها، ولذلك بات عنوان (شغب أنثوي) يحمل مدلولاً يعبر عن المرأة وحياتها النفسية والعاطفية، وكذلك الإجتماعية إذا تصدر الخصوصية عن وعي محدد لدى الشاعرة من خلال مسكها لعصى الكتابة التي لم تعّد حكراً على عالم الرجل، ولذلك بات هذا النص بعتبته تشكل دلالاته خلخلة للهيمنة الذكورة التي وصفتها الشاعرة بــ(السفاح)، ومن هنا عمدت الشاعرة من خلال هذا النص والنصوص الأخرى إلى تحويل الرؤية الثقافية والوجودية إلى علاقات نصية، ولذلك بات العنوان بوصفه عتبة تكشف لنا عن النص المهموم بالأنثوي المسكوت عنه وهو الذي يشغل الهامش. لم تعّد النصوص التي تكتبها المرأة وفي بعض نماذجها القليلة، نصوصاً توافقية خاضعة لاشتراطات المؤسسة الذكورية، بل أضحت هذه النصوص تغادر روح الاستكانة والمسايرة، مما استنطقت بجرأة همومها وكشفت عن عمق مواجهة أنماط التبعية التي شرعنتها سيادة النسق الثقافي الذكوري على مدى عقود طويلة، ولذلك تسعى الشاعرة رسمية محيبس استعادة خطابها الأنثوي من خلال دعم نسقها الثقافي الذي يحاول النهوض بقيمتها ويبعدها عن عالم الدونية الذي كرسها في عالم ثانوي.(1) شغب أنثوي، رسمية محبيس، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ، ط1، 2018.